تقديم

        "رب همة أحيت أمة"

 

                                                              عزمي بشارة​​​​                                                     

                            المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

 

في يوم من أيام عام 2011 الحافل بالأحداث، زارني في مكتبي الأستاذ الدكتور رمزي بعلبكي بصحبة الأستاذين: الدكتور رشيد بلحبيب والدكتور محمد العبيدي من جامعة قطر. وكان الأساتذة الثلاثة يعينون المركز، كلجنة تحكيم أوراق أحد موضوعي المؤتمر السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ألا وهو موضوع اللغة والهوية. ويبدو أنهم تعرفوا عن كثب على اهتمام المركز كمشروع نهضوي بقضايا الأمة ومنها قضية اللغة، واهتمامي الشخصي أيضا بالنهوض باللغة العربية وبضرورة الحفاظ عليها بتطويرها. ففاتحوني باقتراح تبني مشروع المعجم التاريخي للغة العربية. قالوا إنهم يعرفون أن المشروع كبير، وأنه تعثر في أكثر من مكان ومناسبة. ورووا لي تاريخ هذه المشاريع، وأسباب تعثرها. وهاهم يأتون مرة أخرى بصحبة الأستاذ الدكتور عزالدين البوشيخي، من أساتذة اللغة، وهو بدوره يؤكد كلامهم، ويشخّص بدوره أسباب تعثر محاولات إعداد معجم كهذا حتى الآن، ويقدم معهما تصورا المشروع ولخطة إنجازه.

بعد مشاورات مع سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ولي عهد قطر، تبنى ولي العهد بحماس المشروع الطويل المدى، الذي يصعب أن يتحمس له مسؤول إذا كان باحثا عن نتائج فورية ومجد سريع. وحضر مدير مكتبه الشيخ خالد بن خليفة آل ثاني إحدى الجلسات معنا.  وأصبح بإمكان المركز أن يؤمّن له الدعم والدولة الحاضنة. فليس المعجم التاريخي للغة العربية بالأمر السهل، إنه مشروع أمة. ثم تبين لي أنه حلم مئات بل آلاف المتخصصين في اللغة العربية، بمن فيهم ذلك الصديق من جامعة بير زيت الذي اختتم بتلك العبارة كلاما وجهه لي في جلسة تشاورية للخبراء. 

 كنت، وما زلت، على قناعة تامة بأنه لا يمكن تطوير اللغة من دون مواكبتها للتطور. وهذا غير ممكن إذا استُغني عنها كلغة تدريس وكلغة في البحث العلمي. كنت راسخ القناعة أن العيب ليس في اللغة العريقة والغنية هذه بل في من يستخدمون اللغة، فإذا نهضوا نهضت معهم. ولكنهم لا يمكن أن ينهضوا إلا بلغتهم. والنهضة العربية تكون باللغة العربية.

لست أنكر شغفي باللغة العربية وانحيازي المطلق لها، ولكن موضوعنا هنا يتجاوز هذه المشاعر إلى مشروع نهضوي حقيقي، إذ إنه يورّط مئات المتخصصين في البحث في الألفاظ العربية واستخداماتها وتاريخ دلالتها.  وفيما عدا تمكيننا من فهم ثقافتنا وحضارتنا العربية المشروط بفهم اللغة في مرحلتها التاريخية، من دون إسقاط مفارق لمعاني اليوم على الأمس، أو معاني الأمس على اليوم، فإن المعجم التاريخي باستعراضه تطوّر استخدام المفردات العربية يفتح الطريق أمام الاشتقاقات الدلالية التي نحتاجها لمواكبة تطور العلوم. 

على الرغم من التراث المعجمي الضخم الذي خلّفه علماء اللغة العرب القدامى، وعلى الرغم من جهود المحدثين، فإن اللغة العربيّة ما تزال تعاني اليوم من قصور معجمي واضح المعالم مقارنة باللغات العالميّة الحيّة. ومن أهم ملامح هذا القصور غياب معجم تاريخي للغة العربيّة؛ سيمكن إنجازه من سد ثغرة هذا الغياب، ومواكبة تطور اللغة العربيّة، علاوة على استيعاب هذه الألفاظ في مدونة لغويّة واحدة. وسيسهم هذا الإنجاز في الارتقاء باللغة العربية إلى مصاف اللغات العالميّة الحيّة، التي تملك معاجم تاريخيّة متجددة كالإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والإسبانيّة، والروسيّة...

وتتعدد أوجه الجدوى من إنجاز المعجم التاريخي للغة العربيّة، ومن ذلك:

(1)- تمكين الأمّة من فهم لغتها في تطوراتها الدلاليّة على مدى أزيد من ثمانية عشر قرنًا على الأقل. وبذلك يتيسر تحصيل الفهم الصحيح لتراثها الفكري والعلمي والحضاري، بإدراك دلالة كل لفظ حسب سياقه التاريخي، ويتحقق وصل حاضرها بماضيها في المستويات اللغويّة والفكريّة والعلميّة.

(2)- توفير عدد من المعاجم الفرعيّة التي تفتقر إليها المكتبة العربيّة كمعجم شامل لألفاظ الحضارة (الصناعات والحرف والعمارة...)، ومعاجم مصطلحات العلوم (المعجم التاريخي للمصطلحات الطبيّة، والفيزيائيّة، والفلكيّة، والرياضيّة، والجغرافيّة، والفلسفيّة، والشرعيّة، والنحويّة، والبلاغيّة...)، ومعجم شامل للغة العربيّة المعاصرة، والمعاجم اللغويّة التعليميّة، وغيرها.

(3)- تمكين الباحثين من:

      - إعداد دراسات وأبحاث متعلّقة بتقييم تراثنا الفكري والعلمي في ضوء ما يتيحه المعجم التاريخي من معطيات جديدة.

      - استثمار البرامج الحاسوبيّة الخادمة للمشروع، كالمفهرس الآلي والمحلل الصرفي والمحلل الدّلالي والمحلل النحوي والمُشَكّل الآلي وغيرها، في تطوير المعالجة الآليّة للغة العربيّة.

وفي هذا الإطار سعى المركز العربي للأبحاث لإطلاق مشروع المعجم التاريخي للغة العربيّة استهلها بداية بعقد ندوة الخبراء الأولى يومي 10 و11/11/2012، شارك فيها نخبة مميزة من اللغويين والحاسوبيين العرب، علاوة على ممثلي المنظمات الإقليمية والمؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة المعنيّة بالموضوع، وتدارسوا فيها قضايا المعجم التاريخي للغة العربيّة المتعلّقة بخطة إنجازه، والمدوّنة اللغويّة الخاصّة به، وسبل الاستفادة من التقنيات والبرامج الحاسوبيّة في إنجازه. واستعرضت المؤسّسات المشاركة إمكاناتها التي من شأنها أن تدعم هذا المشروع، علميًّا وتقنيًّا.

ويوثق هذا الكتاب الأوراق التي قدمت في هذه الندوة الأولى ـــ من دون التعقيبات والمداخلات والنقاشات ـــ التي شارك فيها الأساتذة: عزمي بشارة، محمد العبيدي، عبد العلي الودغيري، عبد العزي الحميد، عبد الرزاق بنور، بسام بركة، رمزي بعلبكي، الشاهد البوشيخي، حسن حمزة، عودة خليل أبو عودة، عبد السلام المسدي، عبد القادر الفاسي الفهري، عبد المجيد بن حمادو، عبد المحسن الثبيتي، مهدي عرار، رشيد بلحبيب، حامد السحلي، المعتز بالله السعيد، عبد الحق لخواجة، عزالدين مزروعي، لطيفة النجار، علي الكبيسي، عبد الحميد الهرامة، محمد غاليم، محمد الفران، مجد عبار، حسام سليم، عزالدين البوشيخي. 

وخصص المركز الاجتماع الثّاني لندوة الخبراء المنعقدة يومي 6 و7/1/2013 لتحديد مادّة المعجم، والمعلومات المضمنة في مداخله المعجمية، وعناصر الجذاذة الإلكترونية، وأوجه تنسيق العمل بين اللغويين والحاسوبيين.

وقد انبنى التخطيط لمشروع المعجم على اطلاع واسع على التجارب الأجنبية والعربية، الناجحة منها والمتعثرة، وعلى خلاصات الدراسات والأبحاث، وعلى أهم الأفكار والمقترحات المقدمة في المؤتمرات التي تطرقت للموضوع.

وقد عقد المركز يوم 10 آذار/مارس من الشهر الجاري الاجتماع الثالث لندوة الخبراء لاستكمال التخطيط للمشروع ولمراحل تنفيذه ولهيكلته الإدارية، وعرض بعض النماذج التطبيقية لمداخله.

وفيما أكتب هذه المقدمة لعرض هذا المشروع العزيز على العقل والقلب، نعدُّ لاجتماع الجلسة الأولى للمجلس العلمي للمعجم، بعد أن اكتمل نصابه. ومع عقده ينطلق المشروع باحثا عن المنهج الأفضل للسير في مدى اللغة العربية الرحب وذاكرتها وأفقها التاريخي.

​