ومع أنّ مشاريع اللغات الأخرى مثل الفرنسية والألمانية والإنكليزية والهولندية وغيرها ملهمةٌ إلى حدٍّ ما، فإنّها محبطةٌ أيضًا؛ فبعضها احتاج إلى سبعين سنة، وأخرى احتاجت إلى قرن كامل كي تكتمل، على الرغم من تولي مؤسّسات وأكاديميات وطنيّة (ملكية وجمهورية) الإشراف عليه. أمّا المحاولات لوضع معجمٍ تاريخي للغة العربية، فلم تشق طريقًا أبدًا حتى تمهده، بل راوحت في مرحلة ما قبل البدايات. ولست مغاليًا بالقول إنّ معضلات تأليف معجم تاريخي للغة العربية قد تُبرّر التردد في الإقدام عليه، ومن الخطأ الاكتفاء بنقد المؤسّسات العربية والدول التي توانت عن القيام بالمهمة حتى الآن. فمن خصوصيات اللغة العربية امتدادها التاريخي وعمق جذورها من المنقوشات الحجرية حتى عصرنا، وغزارة التراث المنقول شفويًا قرونًا قبل أن يدوَّن، في حين أنّه ليس أمام واضعي أي معجمٍ تاريخي سوى النصوص المكتوبة ليستندوا إليها عند التأريخ للألفاظ. وفضلًا عن ذلك، هناك كثرة النصوص غير المحققة، والنصوص التي شاب تحقيقها الشبهات، ثم لديك اللهجات، والعاميات المدونة وغيرها من القضايا التي سوف تواجه المعجم. أخيرًا، ثمة المشكلة التنظيمية المؤسّسية التي تراوح جذورها بين عدم تلقي الدعم الكافي والمثابر (أي غير الموسمي)، وبين قصور المؤسسات التي خاضت في الأمر عن تجميع الجهود والطاقات والاحتفاظ بها وإدارتها في مشروعٍ طويل المدى وطويل النفس.
حين عَقد المجلس العلمي للمعجم اجتماعه الأوّل يوم 25 أيار/ مايو 2013، كنّا نُدرك تعقيد المهمّة، فقد سبق ذلك الاجتماع ندوات وجلسات متعددة لتدارس الأمر مع الخبراء اللغويين والمعجميين والحاسوبيين. وقد كان للحاسوبيين أهمية خاصة؛ إذ لا يمكن الإحاطة بمدونة اللغة العربية الشاسعة، وتتبع تاريخ ألفاظها من دون استغلال الأدوات الحاسوبية الموجودة وتطوير غيرها وفق حاجات المعجم البالغة الخصوصية. ومن دون ذلك، سوف نحتاج إلى قرنٍ كاملٍ أو أكثر للإحاطة بمدونة اللغة العربية، والإحاطة بالألفاظ والاشتقاقات، ومراجعة شواهد كل لفظ، والتي قد تصل إلى ملايين الشواهد، ورصد ثبات معنى اللفظ ثم تغيره، وتعيين مرحلة التغيير زمنيًا. وقد يحتاج الخبير المعجمي إلى مراجعة عشرات آلاف السياقات قبل أن تقع عينه على استخدام يتضمن معنى جديدًا أو اشتقاقًا جديدًا للفظ. كان إدراك ذلك مقدمة لأحد أهم منجزات معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، بإنشاء قسمٍ خاص بالتكنولوجيا المعلوماتية يتعلقُ باللغةِ العربيةِ وتحليل نصوصها، وإنشاء منصّة تضبط عمليات المعالجة المعجمية والتحرير والتدقيق، لا سيّما مع إدراكنا أنّ المهمة قد تحتاج إلى عشرات وربما مئات من المستخدمين.
وكان على المجلس العلمي أن يحسم في قضايا جوهرية مثل بنية المعجم التاريخي والتأثيل والنظائر السامية، وحجم الحزم الاشتقاقية من كلِّ جذرٍ لغوي التي سيتتبعها الخبير المعجمي مؤرخًا لتغيّر المعاني عبر تاريخ استخدام اللفظ، وكيف يُحدد تاريخ الاستخدام، هل بوفاة الكاتب؟ وهل نعرف فعلًا تواريخ وفيات الكتّاب؟ والمقصود، في حالاتٍ كثيرة، ليس الكُتّاب، بل القائلون الذين يورد الكُتّاب اقتباسات منهم؟ وهل سيشمل المعجم التاريخي تأريخ تحول اللفظ إلى مصطلح، ومعنى هذا المصطلح في التخصصات المختلفة؟ وقبل هذا كله، ما هي النصوص التي ستدخل في المدونة التي يستمد المعجم منها ألفاظه؟
لكي يحسم المجلس العلمي هذه المعضلات، كان من اللازم أن يجهز منهج العمل، ويتحسّب للمشاكل الممكنة التي سوف تواجه المشروع بناء على هذا المنهج. المعضلات يحددها المنهج. وهذا ما جهزه الطاقم التنفيذي للمعجم قبل الانطلاق، وقبل أن تنشأ معضلات جديدة خلال العمل لم يكن من الممكن توقعها آنذاك.
ليس من الصعب جمع كل ما كُتب باللغة العربية حتى عام 200ه أو على الأقل ما حُقق منه، ولكنّ المهمة تزداد صعوبة في مرحلة ما بعد عام 200ه، ثم تُصبح شبه مستحيلةٍ إذا أردنا جمع كل نصوص اللغة العربية في العصر الحديث بغرض تتبع استخدامات كل لفظ، ومتى استُخدم، ومتى تغيّر المعنى، وفي أيّ شاهد؟ ولكن حتى من ينجح في جمع كل ما حقق من نصوص العربية حتى عام 200ه، سوف يواجه معضلات أخرى متعلقة بهذه النصوص.
لقد أدرك المجلس العلمي للمعجم والخبراء العاملون فيه حجم التحدي وعظم المسؤوليّة. صحيح أنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، لكن فقط إذا كانت هذه الخطوة بالاتجاه الصحيح. فالخطوات الأولى هي التي ترسم مسار المعجم. ولذلك احتجنا إلى وقتٍ طويل من الإعداد والتجربة والخطأ حتى اهتدينا إلى المنهج المشروح في مقدمة المعجم التاريخي والمنشور على موقعه المتاح للجميع. لقد قررنا أن نضع البنية التحتية قبل مباشرة العمل، ثم الانتقال إلى مرحلة أولى تُعالجُ ما يمكن الإحاطة به من ألفاظ العربية حتى عام 200ه، فهي أساس المبنى كله، إنها أساس اللغة العربية. فالإضافات على الجذور قليلة للغاية، وثمة إضافات كثيرة على مستوى الاشتقاقات والدلالات. وثمة حالات يمكن حصرها لألفاظ أعجمية عُرّبت، وما لبثت أن صارت لها اشتقاقات وتفعيلات، ونُحتت "جذور" لها حين كانت اللغة في قمة تطورها.
ومن إيجابيات هذا المنهج، أنّه مكّننا من إنجاز تأريخ الألفاظ لمرحلة تاريخية كاملة محددة ومحصورة في نحو سبعة قرون من حياة اللغة حتى عام 200ه. تم الأمر بعد سنوات من العمل بهدوء، وظل التعديل ممكنًا مدة عامين بعد الإنجاز؛ لأن صيغة النشر على الإنترنت مكّنت مئات الخبراء من التفاعل مع المعجم والإدلاء باقتراحاتهم، ومن ضمن ذلك بعض التصويبات. ولم يخل الأمر من صعوباتٍ تميز هذه المرحلة تحديدًا؛ فمثلًا يصعب فيها تحديد تواريخ النصوص، كما أنّ قسمًا كبيرًا مما قيل في هذه المرحلة كُتب بعد مئات السنين من القول، ومن ثمّ فهل يوثق الشاهد بحسب تاريخ القول أم تاريخ صدور النص؟ يتعلق هذا بدرجةٍ كبيرة بأهم مصادر هذه المرحلة مثل ما يُسمى الشعر الجاهلي، ومصادر التراث الإسلامي نفسه. ولذلك، لا يمكن الاكتفاء بتاريخ النص؛ فالاكتفاء به ينفي التاريخ الجاهلي كلّه وكذلك تاريخ الأحاديث النبوية وغيره. لا بد من تحديد تاريخ القول في بعض الحالات. ولكن، من ناحية أخرى، فإن تحديد تاريخ القول يجب أن يخضع للأمانة العلمية، والتأكد من موثوقية نقل هذا القول على نحو صحيح وبخاصة أن تدوينه جرى بعد مئات السنين. وإذا كانت هذه غاية الجرح والتعديل في علم الحديث، فما بالك بالشعر الجاهلي وغيره. ولا بديل في هذه الحالة من إعمال الخبير المحرر لعقله النقدي، ومن بعده المراجع، ومن بعدهما المجلس العلمي، والتفاعل مع التخصصات العلميّة المختلفة؛ إذ لا يكفي الاختصاص اللغوي المعجمي لتحديد التفاعل بين معنى اللفظ والسياق التاريخي للقول.
هذه إحدى المشكلات فقط. وهناك مشكلة حقل النظائر السامية الذي قررنا خوض غماره. وتحديد النظائر السامية لجميع ألفاظ العربية التي وجد لها نظائر كهذه، هو مشروع لم يسبق معجم الدوحة التاريخي إليه أحد، وهي عملية لم تكتمل بعد بسبب سعتها؛ إذ لم نتوقع هذا العدد من الألفاظ التي تناظرها ألفاظ من لغات سامية أخرى.
انتهينا قبل عامين تمامًا من التأريخ لدلالات ألفاظ اللغة العربية حتى عام 200ه، ومن وضع البنية التحتية وكذلك السكة التي يسير عليها المعجم، وأصبح أوّل معجم تاريخي للغة العربية متاحًا على الإنترنت، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها الجمع بين إتاحته مجانًا لجميع المستخدمين، وسهولة البحث فيه، مع ربط الشواهد بالمصادر ذاتها. وهذا أيضًا هو عملٌ لم يسبق أحد معجم الدوحة التاريخي إليه؛ وأقصد جمع مدونة اللغة العربية وترتيبها تاريخيًا، والتأكد من المؤلف وتاريخ وفاته، واختيار أفضل التحقيقات وأدقها. ويمكن للباحث عن معنى اللفظ أن يجد المعنى والشاهد مؤرخًا، ثم مكان الشاهد في الكتاب ذاته؛ إذ إنّ المعجم يوفر للقارئ الكتاب ذاته الذي ورد فيه الشاهد. وعمليّة جمع النصوص عملية تراكمية باتت تشمل المرحلة الثانية؛ أي حتى عام 500ه. هكذا تُبنى بالتدريج أكبر مدونة للغة العربية، ويجري إغناء المحتوى العربي على الإنترنت، وذلك ليس عبر عمليّة الجمع فحسب، وإنّما أيضًا بترتيب البيبليوغرافيا ترتيبًا تاريخيًا، والتحقق من النص، ومن تحقيق النص ذاته. وقد اكتُشفت خلال هذه العمليّة أخطاءٌ كثيرة لمحققين وأخطاء مطبعيّة في النصوص جعلت محرّك البحث يخلط بين لفظ وآخر أثناء المعالجة المعجمية ما اعتُقد أنه تغيير في المعنى.
لقد شرع خبراء المعجم منذ أكثر من عام بتحرير ألفاظ المرحلة الثانية الجديدة، أو المعاني المستجدة فيها على الألفاظ التي سبق أن وردت في المرحلة الأولى. وفرغوا حتى الآن من ألفاظ خمسة من حروف الأبجدية، واتُّخذ القرار بتحيين المعجم أولًا بأول؛ أي عدم الانتظار حتى تكتمل جميع الحروف في المرحلة الثانية. وبدأ إعداد مدونة المرحلة الثالثة (من عام 500ه حتى عصرنا هذا).
إنّ عمليّة إعداد هذه المدونة هي عمليّة معقدة للغاية؛ فالمراحل الأولى تشمل جميع النصوص القائمة والمحققة مع التأكّد من المؤلف وتاريخ وفاته وترتيبها والتأكّد من صدقية تحديد الكتاب لأزمنة مروياته، وموقعه في مرحلته التاريخية. أمّا في المراحل المتأخرة، فلا يمكن الإحاطة بالمدونة، ولا بد من وسيلة تسمح ببناء عيناتٍ ممثلة لها، وهذا يتطلّب منهجًا علميًّا في اختيار العينات التي قد تتجاوز في حد ذاتها آلاف الكتب وعشرات الآلاف من النصوص في الآداب والعلوم المختلفة، ومن الصحافة والإعلام أيضًا في عصرنا الذي استقبلت فيه اللغة العربية ألفاظًا ومصطلحات جديدة، هذا عدا التغيّر الحاصل في معاني الألفاظ. إنّه بحرٌ هائج من النصوص المتفاعلة مع تطورٍ سريعٍ للواقع والعلوم والحضارات الأخرى. وسوف نحتاج إلى ابتكارات على مستوى آليات العمل لكي نخوض في هذا البحر، الذي لا مفر من الخوض فيه، للوصول إلى الضفة الأخرى وهي الحاضر الذي نعيشه.
حتى هذه المرحلة، كان الخبير المعجمي يُعنى بالتوصل إلى أوّل استخدامٍ للفظ وتعريف معناه في حوارٍ مع خبراء آخرين، وعليه أن يورد الشاهد التاريخي بدقّة، وأن يصله بالنص الأصلي الموجود، وأن يتتبع ألفاظ الحزمة الاشتقاقية ومعانيها، وأن ينظر إن كان هذا اللفظ من أصولٍ عربية أم غير عربية ... إلخ. ولكنّ عدد السياقات ظلّ محدودًا إلى حدّ ما؛ أي إنّه حين بحث عن اللفظ وجدَ عدد السياقات محدودًا يقرؤه ليعرف إن كان معنى اللفظ قد تغيّر أم لا، فإذا لم يتغيّر ترك السياق وانتقل إلى سياقاتٍ أخرى أو إلى شواهد أخرى. وكلما تقدّمت اللغة العربية وازداد الإنتاج المعرفي غنًى، كثرت السياقات، وسيكون على الخبير أن يقرأ آلاف السياقات إلى أن يقف على معنى جديد، وقد يكون هذا المعنى الجديد مصطلحيًا؛ أي إنّ اللفظ قد تحول في مرحلة ما إلى مصطلح يستخدم في تخصص معين، عندها يجب أن يتدخل الخبير المصطلحي ويُعرّف معنى اللفظ الجديد. وقد وجد المعجم حلولًا منهجية لكل هذه المعضلات، لكنّه من الصعب أن يجد حلًا لمعضلة الكم، وهي خاصة بمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية لأنّه أخذ على نفسه عهدًا ألا يعتمد على المعاجم القائمة. لو أراد معجم الدوحة التاريخي أن يعالج تاريخ المعاني من تاريخ المعاجم العربية لكانت المهمّة أبسط بكثير، ولأنهى مهماته في بضعة أعوام قليلة. ولسنا ضد السهولة والبساطة، ولكن المعجم التاريخي لن يُضيف بذلك جديدًا. فكثير من معاجم اللغة العربية يكرّر أحدها الآخر ولا تقوم بتأريخ تغيّر معاني الألفاظ. وهذا ليس تقصيرًا منها؛ إذ ليست هذه وظيفتها أصلًا، إنها وظيفة المعجم التاريخي للغة العربية. ولا يجوز أن يخلط بينها وبين مهمات المعاجم الأخرى. لا شكّ في أنّ المعاجم الأخرى مفيدة في سياقها، لكنّ مراكمة المعاجم، أحدها فوق الآخر، لا تصنع معجمًا تاريخيًا. وعلى المعجم التاريخي أن يتتبع تاريخ الألفاظ بنفسه.
من هنا تنشأ مشكلة كبيرة مع تراكم النصوص؛ بحيث يستحيل على الخبير المعجمي للفظ من الألفاظ أن يقرأ كل السياقات المتعلقة به في فترة معقولة. ولا يوجد حل تقني حاسوبي لهذه المشكلة. لقد وصلنا إلى درجات عالية من المعالجة الحاسوبية لألفاظ اللغة العربية والتحليل الصرفي لها، واكتشاف الألفاظ الجديدة التي لم ترد في المعجم حتى الآن. وهذه من الأمور التي سيعود بها المعجم بالفائدة على مجمل التطوّر الحاسوبي في اللغة العربية، ولكنّ الأداة الحاسوبية لا تستطيع أن تُدرك المعنى وتغيّره في السياق. هذه مهمّة الخبير المعجميّ. عقل الخبير وثقافته اللغوية والعامة هي قلب المعجم النابض، وليس تقنية المعلومات. من ثمّ، يجب أن يتوافر منهج في اختيار النصوص وحصر المدونة بما يُمكّنه من الإلمام بالشواهد واستخلاص المعاني الجديدة والتأريخ لها، وهذه من تحديات المراحل القادمة للمعجم التاريخي.
لقد أنجزنا معجمًا تاريخيًّا للغة العربية يستعرض تاريخ معاني جميع الألفاظ حتى عام 200ه. وخبراء المعجم منشغلون الآن بإنهاء المرحلة الثانية حتى عام 500ه، وهي مرحلةٌ مهمة جدًا لأن جزءًا كبيرًا من المصطلحات نحت في تلك المرحلة في سياق النهضة الحضارية وتطور الآداب والعلوم، ونتيجة لحركة الترجمة الواسعة التي تجلت فيها قدرة اللغة العربية على تبيئة المصطلحات تعريبًا وترجمةً. وفي المجمل، أظهرت اللغة العربية حيوية فائقة في التطور والتكيّف. وسيقدم تأريخ الألفاظ والمصطلحات، ومنها ما اندثر ولم يعد مستخدمًا منذ تلك المرحلة، خدمةً كبيرة في اكتشاف قدرة اللغة العربية على التعامل مع العلوم الحديثة حاضرًا ومستقبلًا، واستعدادها لاستقبال مصطلحات وألفاظ جديدة، وقابليتها لترجمة أخرى، وإحيائها، وخدمات أخرى لا تُقدر بثمن في فهم تاريخ حضارتنا.