نشر فى: 26/09/2025 - المؤلف: إسماعيل القيّام

​​​​نحو قرنٍ من الزّمان مرّ على أمّتنا ما بين إصدار مجمع اللغة العربيّة في القاهرة مرسومًا يقضي بإنشاء معجم تاريخيّ للّغة العربيّة عام 1932، واقتراب الإعلان عن اكتمال معجم الدوحة التاريخيّ في نهاية هذا العام 2025، بحسب ما أوضحته مقالة الدكتور عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المنشورة قبل عدة أيام. وقد ظلّ المعجم التاريخيّ طوال هذه الحقبة حلمًا لأبناء العربيّة وللمشتغلين بعلومها على وجه الخصوص. محاولاتٌ وإقدامٌ وتعثُّرٌ وتراجُعٌ تخلّلت ذلك كلَّه دراساتٌ ورسائلُ وأبحاثٌ لم ترقَ، على أهميّتها التاريخيّة، إلى الأمل المنشود حتّى بزغت فكرة تأليف معجم الدّوحة التاريخيّ عام 2012 مجدّدةً الأمل في النّفوس بأن تصل إلى غايتها المرجوّة من إتمام معجمٍ تاريخيٍّ للعربيّة ولو على نحوٍ أوّليٍّ.
ولا شكّ في أنّ المركز العربيّ حينما تبنّى فكرة تأليف معجم تاريخيّ للعربيّة كان يُدركُ أنّه يسلك طريقًا وعرة المسالك كَأْداء العقبات؛ ذلك أنّ تجارب اللغات الأخرى التي سبقت العربيّة في إنشاء معاجم تاريخية، بالرغم من نجاحها وتفوُّقها منذ زمن، تُنبئ في الوقت نفسه عن صعوبات جمّة، وعن أنّ خوض هذه التجربة مع العربيّة سيكون مطلبًا محفوفًا بالمخاطر والإشكالات؛ ذلك أنّ مجرّد الالتفات إلى الزمن الذي استغرقته الأمم الأخرى في بناء معاجمها التاريخية، يبثّ الرُّعب في القلوب، فأيّ مشروعٍ ذلك الذي ستُقدمُ عليه مؤسّسةٌ وهي تعلمُ أنّ غيرها من الأمم قد أخذ منه مثلُ هذا المشروع زهاء سبعة عقودٍ على الأقلّ كما حدث في معجم أكسفورد للغة الإنكليزية الذي بدأ العمل في تنفيذ مخططه عام 1857 وأُنجِز عام 1928، وبعضها استغرق أكثر من قرنٍ من الزمان كما هي الحال مع معجم اللغة الألمانيّة التاريخيّ الذي بدأ في عام 1838 وأُنجز عام 1961؟
ثمّ يغدو مشروع بناء معجمٍ تاريخيّ أكثر إثارةً للتّهيُّب والتردُّد عندما تكون اللغة المُستهدفة بصناعة المعجم التاريخيّ هي العربيّة بكلّ تاريخها الطويل، وبنائها المترامي الأطراف؛ لغةٌ يمتدّ استعمالها الحيّ أكثر من خمسة عشر قرنًا، تنتمي إلى أسرةٍ لغويّةٍ عريقةٍ موغِلةٍ في العراقة والقِدم هي أسرة السّاميّات، وما تضمّه هذه الأسرة من لغات شقيقة للعربيّة أثّرت فيها وتأثّرت بها، وبينهما الكثير من المشتركات. وتتشعّبُ اللغة العربيّة كذلك إلى لهجاتٍ عربيّة قديمةٍ ابتعدت الشّقّة بينها وبين العربيّة الحديثة (أعني هنا عربيّة قريش والقرآن الكريم) حتّى قال أبو عمرو بن العلاء (متوفّى منتصف القرن الثاني للهجرة) قولته المشهورة: "ما لِسانُ حِمْيَرَ وأقاصي اليمن اليومَ بلساننا، ولا عربيّتهم بعربيّتنا".
ولا يخفى ما للهجات القبائل العربيّة قُبيل الإسلام وبعده من تأثيرٍ كبيرٍ وواسعٍ في تراث اللغة العربيّة الأدبيّ والفكريّ واللغويّ، حتّى لتبدو معالم تأثير تلك اللهجات واضحةً جليّةً في المعجم العربيّ وفي أصوات العربيّة وصرفها ونحوها ودلالات ألفاظها. ثمّ إنّ اللغة العربيّة قد تحوّلت بعد الإسلام إلى بحرٍ واسعٍ بما استوعبته ممّا تسرّب إليها من لغات الشّعوب الأخرى التي أصبحت جزءًا من الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وقد كانت العربيّة "بيتَ أبي سفيان"، فأمّنت كلّ ما دخل إليها وجعلته جزءًا منها، وإن اختلفت طريقة اللغويّين في التعامل مع هذا الدّخيل.
والعربيّة - وإن حظيت من المعاجم اللغويّة بوفرةٍ ظاهرةٍ خدمتها خدمةً جليلةً منذ "عين" الخليل حتى معاجم مجمع القاهرة؛ وسيطه ووجيزه وكبيره- لم تحظَ في موازاة ذلك بمعجمٍ تاريخيّ يُعنى بتاريخ ألفاظها وتطوّرها اللغويّ، وتأصيلها والوقوف على بدايات الاستعمال وتطوّره عبر المراحل الزّمنيّة الممتدّة. فأنّى لمؤسسة أن تتبنّى مشروعًا يسعى إلى تجاوز كلّ هذه العقبات، لا سيّما أنّ حال أمّتنا، بما هي عليه اليوم من تراجُعٍ وضعف، لا تسرُّ صديقًا ولا تغيظُ عدوًّا؟
وقد فعَلَ المركز العربيُّ للأبحاث، فاضطلع بهذه المهمّة واعيًا ومدركًا للعقبات والصّعوبات، ومؤمنًا في ذات الوقت بأنّ "هذه الأمّة تستحقُّ بأن تُذكَّرَ بأنّها حيّة على الرغم من كلّ شيء". فاستطاع بما توفّر له من دعم سخيّ قدّمته دولة قطر، وما استطاع توفيره من تقنيات حاسوبيّة عالية وما تُتيحه من إمكانات البحث وبناء المدوّنة، أن يُقْدِمَ على خوض غمار هذا المشروع الكبير، وتمكّن من أن يطويَ مراحلَ زمنيّةً كان المتوقّع لها أن تكون طويلةً جدًّا، وما كان له أن يختصرها لولا ذلك الاجتهاد في إدارته المشروعَ على نحوٍ من العمل المتزامن؛ ففي الوقت الذي يشتغل فيه المجلس العلميّ واللغويّون الخبراء من مختلف الأقطار العربيّة في وضع التصوّر العامّ للمعجم، ووضع قواعد البحث والتحرير المعجميّ، وكيفية بناء المداخل وطريقة عرضها، وتحديد المستعمِل الأوّل، وتاريخ الاستعمال... وصولًا إلى ما عُرف بـ "الدّليل المِعياريّ" للعمل في المعجم، كان خبير المدوّنة وخبراء الحوسبة في الوقت نفسه يعملون على إعداد مدوّنة شاملةٍ للّغة العربيّة، تُتيح للخبراء اللغويّين البحث عن الألفاظ وما يطرأ على دلالاتها من تطوّرٍ وفق سياقاتها الاستعماليّة.
ثمّ كان من باب التّزامن في العمل تقسيم إنجاز المعجم على ثلاث مراحل تاريخيّة، تمتدّ الأولى منذ أقدم استعمالٍ لغويّ موجود في تاريخ العربيّة إلى سنة 200 هـ. والثانية من حيث انتهت الأولى إلى سنة 500 هـ. والثالثة تمتدّ من نهاية الثانية إلى الزمن الحالي (عام 2023). وقد أُعلن عن الانتهاء من العمل في المرحلة الأولى عام 2018، وأتيحت تلك المرحلة للقرّاء للاطلاع عليها على موقع المعجم، ممّا أتاح لإدارة المعجم وفريقه فرصة الاستماع إلى الآراء النّاقدة وتمحيصها والإفادة منها في المرحلتين اللاحقتين، وكذا كان الأمر بعد الإعلان عن انتهاء المرحلة الثانية عام 2022 وإتاحتها على موقع المعجم. ففي الوقت الذي كان فيه الخبراء اللغويّون منهمكين في إنجاز المرحلة الأولى تحريرًا ومراجعةً وتدقيقًا، كان خبراء الحوسبة يهيّئون البنية الحاسوبيّة المناسبة للمرحلة الثانية، ويفيد الفريقان في ذات الوقت ممّا يصل إليهم من ملاحظات القرّاء على المرحلة الأولى المنجزة. فكان من نتيجة ذلك أن غدا الزمن المتاح للعمل أوسع وأكثر رحابةً من الزمن الفعليّ المحسوب بالسّنوات.
وبالرغم ممّا يلمسه المطّلعُ على معجم الدّوحة التاريخيّ من جودة العمل الفائقة؛ سواءٌ في الجانب اللغويّ أو الحاسوبيّ وسهولة الوصول، فإنّ ممّا تطمئنّ له النّفس أنّ إدارة المركز العربيّ والمعجم آخذةٌ على عاتقها الاستمرار في تطويره وتحديثه وفق المراجعة المستمرّة التي ستتابع العمل على تحديث المعجم، ووفق ما يصل إليها من ملاحظات أو أفكارٍ في ضوء الاطلاع على المعجم كاملًا بعد إعلان اكتماله نهاية هذا العام. وقد أكّد ذلك الدكتور عزمي بشارة بقوله: "أجزم أنّنا سوف نكتشف أخطاءً، أو نُبلَّغ عنها؛ فنصحّحها. وسوف نُضطرّ إلى تعديل تواريخ استعمال بعض الألفاظ إذا تبيّن عدم دقّتها. وقد نُضطرّ إلى تصحيح بعض المداخل بعد أن نكتشف تصحيفًا في المصدر لم ينتبه إليه المحرّر. وسوف نتابع تطوّر اللغة، باشتقاقاتها ومعانيها الجديدة التي تولّدت من تفاعل اللغة الحيّة مع تطوّر الواقع المعيش، وكذلك استقبال ألفاظ أجنبيّة جديدة".
عندي، وعند محبّي العربيّة من سائر أنحاء الدّنيا، وعند المشتغلين بها أدبًا ونحوًا وصرفًا ومعجمة، يُؤْذِن هذا الإعلان بأنّ الحلم تحقّق، وأنّ العربيّة قد وجدت نفسَها على قدم المساواة مع اللّغات الّتي أُنجِزت لها معاجمُ تاريخيّة. ويَقَرُّ في القلب والعقل والنّفس أنّ هذا المعجم سيُسهِم في حركة نهوض عربيّة؛ لغويّة وفكريّة وحضاريّة، إذ إنّ توحيد مفاهيم الألفاظ ودلالاتها واضحةً جليّة لا تلتبسُ ولا يكتنفها الغموض، له في التّفكير أثره، وفي توسيع دائرة المشترك في الفهم بين أبناء الأمّة.