نشر فى: 28/05/2023 - المؤلف: وحدة الإعلام والعلاقات العامّة

منذ تدشين البوّابة الإلكترونيّة للمعجم في 10/ كانون الأوّل/ ديسمبر/ 2018 في يوم الإعلان عن بلوغ المعجم نهاية المرحلة الأولى من مراحل إنجاز المعجم لمداخل ألفاظ اللّغة العربيّة المستعملة في نصوصها ونقوشها منذ أقدم ظهور لها حتّى العام 200 للهجرة، والباحثون والمهتمّون يُطلّون عبر نافذة جديدة للمعرفة، يلتمسون منها نورًا، ويترقّبون حدَثًا، ثمّ أعقبها بعد ذلك الفراغ من موادّ المرحلة الثّانية الممتدّة إلى العام 500 هـ، فتنامى الإقبال على هذه الموادّ بالدّراسة والتّحليل والبحث المُعمّق، ونحن اليوم قد قطعنا شوطًا من المرحلة الثّالثة الأخيرة؛ حيث يجري عمل الخُبراء على تحرير الموادّ المعجميّة لإنجاز ألفاظ اللّغة العربيّة المستعملة في نصوصها ونقوشها إلى العام 1444هـ.

وظلّ الإقبال على موقع المعجم عبر بوّابته يتنامى ويتعاظم بتزايد الأفكار والموضوعات المنصبّة على الموادّ المنشورة على البّوّابة بالدّراسة والبحث والتعمّق، وتستلهم منه أسئلةً تارةً، وحُلولًا لقضايا يئس الدّارسون من بعضها.

وقد قرّر المعجم، تخصيص مؤتمرات علميّة لاستيعاب القضايا المتدفّقة الّتي يثيرها المتابعون ويستلهمونها منه، فكانت أبحاثًا عظيمة الشّأن، في موضوعها وتنوّعها، بما يُبشّر بميلاد وعي معرفيّ جديد لدراسة قضايا اللّغة العربيّة.

وبعد اختتام أعمال المؤتمر الرّابع (معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، تحوّلات المعنى، والاستثمار في مجال اللّسانيّات التّطبيقيّة) الّذي عقده المعجم في مكناس المغرب 10-12/أيّار/ ماي 2023م أكّد الباحثون المشاركون أنّ هذا الحدث حدثٌ استثنائيّ فعلًا، وأنّ موعدًا جديدًا مع الأبحاث والدّراسات الواعدة قد حانَ؛ فلأقسام اللّغة العربيّة والدّراسات العُليا اليوم أن تُكثّف نشاطها البحثيّ بالإفادة من المُعجم ، ومصادره الغنيّة، وموادّه المُحرّرة، ومن الأبحاث المُنجزة عنه، وفي هذا السّياق نستعرض بعض المجالات الّتي نوجّه إليها اهتمامات الباحثين، تمثيلًا لا حصرًا، لتقوية الحجّة بأنّ هذا الحدَث ثورةٌ معرفيّة حقيقيّة، وانتصارٌ لأقسام اللّغة العربيّة والدّراسات العُليا والبحث العلميّ، وإنعاشٌ لدورها الرّياديّ.


معجم الدّوحة التّاريخيّ:

(كَلِمَة طيّبة كشجرةٍ طيّبةٍ، أَصلُها ثابتٌ وفرعُها في السّماء، تُؤتِي أُكُلَها كُلّ حِين بإذن ربّها)

يعين معجم الدّوحة التّاريخيّ على رفد علم اللّغة المقارن والدّراسات السّاميّة وقضايا علم الفيلولوجي philology بالشّواهد والأمثلة على ألفاظ مشتركة بين اللّغات السّاميّة، وعلى تقديم شواهد أخرى لنظام الأسرة الدّلاليّة والعلاقات التّطوّريّة بين الجذور. ويؤسّس هذا المعجم لدراسات جديدة في علم اللّغة التّاريخيّ والبحث في التّأصيل والتّأثيل الإتيمولوجيّ etymology على أسس تُحاصر حُدود الحدس والتّخمين، وتقترب من درجة الإثبات العلميّ، كما يؤسس المعجم في هذا السّياق لإعادة قراءة المعاجم السّاميّة قراءة أكثر عُمقًا في ضوء معاني اللّفظ وتطوّرها داخل المادّة المُعجميّة المُحرّرة في علاقتها بأسرتها السّاميّة.

ولنا أن نتوقّع أيضًا أنّنا أمام ميلاد جديد لعلم النّحو التّاريخيّ الّذي لا نعثر له على دراسات مُعمّقة؛ لأنّ النّحاة كان لهم نهج وغاية أخرى صرفتهم عن الهمّ التّاريخيّ، لعلّ أجلّها خدمة كتاب الله -عزّ وجلّ- وكان من حقّ النّحو التّاريخيّ أن يكون أسبقَ ظُهورًا من المُعجم التّاريخيّ؛ لأنّه أكثر ارتباطًا بالمباني والتّراكيب والصِّيَغ الصّرفيّة الّتي يُفترض أنّها تسبق ظُهور المعاني، ويسهل، اليوم، أن يُعاد وصف هذه المباني والصِّيَغ والتّراكيب انطلًاقًا من مدوّنة هذا المعجم لمعرفة سلوك هذه الألفاظ في مبانيها، ولمعرفة الأقدم منها في الظّهور، مبنًى مبنًى، وصيغة صيغة، لتقديم حجج مستقلّة ومنطقيّة وعلميّة، ولإيجاد تفسير علميّ للظّواهر الّتي اختلف فيها النّحاة اختلافًا واسعًا  (كخلافهم في أسبقيّة المصدر والفعل والاسم وبعض الصِّيَغ والأزمنة على بعضها) دون أن يُثبِت أحدُهم حُجّته بدليل منهجيّ وعلميّ يعتمد على تردّد هذه المباني في سياقات المدوّنة المرتّبة ترتيبًا تاريخيًّا على منصّة معجم الدّوحة التّاريخيّ.

ولا يخفى على المتابع التّنبّؤ بتدفّق سيل من الدّراسات اللّسانيّة والمُعجميّة، في مجالات: الصّناعة المعجميّة والقاموسيّة، ولسانيّات المدوّنات، واللّسانيّات النّصيّة السّياقيّة والتّداوليّة، واللّسانيّات الإحصائيّة الحاسوبيّة.

أضف إلى ذلك ما سيقع من انفتاح الباحثين على قضايا الدّلالة التّصوريّة في تطوير دراسات المعنى وصياغة التّعريف والحدود، وأوّليّات المعنى، وقضايا المُصطلح النّحوي في السّياق المعجميّ الوصفيّ بعيدًا عن المعياريّة، وإنتاج أفكار جديدة لتصميم المحلِّلات الصّرفيّة الدّقيقة التي تخدم أغراض الكفاية الوصفيّة والتّفسيريّة في كلّ قضايا اللّغة ومكوّناتها ومستوياتها، كلّ ذلك سيكون للمعجم فيه فضلٌ وإسهام قليلًا أو كثيرًا.

ومن نِعَم هذا المُعجم أنّه عُني في معرض تحريره بتشخيص قضايا الانتحال، ودراسة مسائل التّصحيف والتّحريف والرّوايات المختلفة على أساس أكثر واقعيّة وعلميّة، وهذا التّشخيص ينطلق من الأسس التي قام عليها، وهي مبذولة لكلّ المنتفعين من هذا العلم على مستوى مدوّنته ومصادره وموادّه المنشورة، ومنهجيّة عمله، لإعادة النّظر في مستويات خدمة المصادر والنّصوص الموثوقة والكشف عن غير الموثوق منها.

وعلى مستوى المضامين الكُبرى كالهُويّة اللّغويّة، والتّفاعل الحضاريّ بين اللّغات ومسائل الأعجميّ  (الاقتراض والدّخيل والمعرّب) الّذي هاجر ووفد علينا من اللّغات الّتي تعايشت مع حضارتنا كالفارسيّة واللّاتينيّة والسنسكريتيّة، ويتّصل بأبعاد هذا التّفاعل، فإنّ كلّ لفظ من هذه الألفاظ كفيل بتوليد دراسات وافية انطلًاقًا من الأصل الّذي رصده المعجم، ومن المعنى الّذي وُلد به أو انتقل إليه.

وهناك طيف واسع آخر من الموضوعات  البالغة الأهميّة الثّاوية خلف الحقول الدّلاليّة، فطريقها هو دراسة ألفاظ هذه الحقول دراسة تاريخيّة تعاقبيّة وتزمّنيّة، من جديد؛ لأنّ دراستها منتظمة في سياقات مُحدّدة تاريخيًّا، تُنصِف الدّارسين وتروي ظمأهم؛ ففي هذا المعجم، على سبيل التّمثيل، تطول قوائم ألفاظ الألعاب والأطعمة والأشربة والملابس والعادات والحيوانات والحشرات والنّبابات وغيرها، وهي بحاجة ماسّة إلى استثمار المعجم التّاريخيّ لفهم أسرار حياة النّاس في الزّمن الغابر، وطُرق تحوّلاتها الدّلاليّة بما يخدم طيفًا من العلوم والدّراسات الّتي تعتمد منهج الحفر والتّنقيب، وترصد التّطّور الحاصل في أبحاثها.

وللأقسام العلميّة أيضًا ما لم يكن لها من قبل في خدمة توليد المصطلح، وفي استثمار نظريّات التّحليل والبناء الصّرفيّين في خدمة الألفاظ المُستحدثة الّتي تتدفّق بالآلاف.

ومن الموضوعات الواعدة التي يمكن أن يفيد منها الباحثون المستمدِّون العون من هذا المعجم ما يتّصل بمصادر جمع المدوّنات العملاقة، وبدراسات التّركيب والمعجم، وبدراسة اللّغة بوصفها توليدًا وإغناءً للمعجم الذّهنيّ الّذي يفتح آفاقًا للّسانيّات الأحيائيّة، ودراسات المعاجم التّاريخيّة المقارنة وأثرها في تقريب حقيقة التّراث الإنسانيّ بين البشر، وكذا بالدّراسات الإنسانيّة (تاريخ، أنَاسة، اجتماعيّات...)، وقضايا أخرى عظيمة الشّأن في مجالات اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها.

بالنّظر إلى الموضوعات المذكورة آنفًا؛ فإنّه من المممكن الاستعانة بمعجم الدّوحة التّاريخيّ وبالأدبيّات الصّادرة عنه وعن المؤتمرات الّتي أنجزها، في توصيف مناهج بعض الاختصاصات ومقرّراتها، على مستوى تخصّص اللّغة العربيّة وآدابها، وتخصّص اللّسانيّات بفروعها المتنوّعة، أو على مستوى اختصاصات أخرى بينيّة يربطها باللّغة روابط عميقة كالفلسفة والتّاريخ والعلوم الاجتماعيّة وعلوم التّربية وعلوم الحاسوب والبرمجة اللّغويّة وغيرها، كما يمكن الإفادة من المعجم في خلق برامج علميّة جديدة تزيد من فاعليّة هذه الاختصاصات لتصبح محلّ رضى وقبول لدى المنتسبين إليها، وتُعلي من أدوار هذه الاختصاصات في خدمة المجتمع والدّراسات العلميّة المُعمّقة، وترفع نسبة الإقبال عليها.

وما هذا العرض إلّا مختصر لأهمّ الأفكار الّتي أشار إليها المشاركون والباحثون الذين تفاعلوا مع معجم الدّوحة التّاريخيّ للّغة العربيّة، وأنجزوا أبحاثهم من خلاله في مضامين عدد من هذه الموضوعات، حرَصنا على تنبيه الباحثين إليها، أينما كانوا، للانتهال من مورِد شَرِيعَةٍ صافِي، ونبْعٍ مَعِينٍ ضافِي لعلّه يعين في ترسيخ قِيم الهُويّة والانتماء إلى لغتنا العربيّة، ويعيد لها ألَقَها ومكانتها الرّياديّة في الأوساط العلميّة والأكاديميّة.

وحدة الإعلام والعلاقات العامّة 


التعليقات

لتشارك بتعليق أو رد، تحتاج إلى تسجيل الدخول أو التسجيل
مشاهدة التعليقات السابقة