بعد ثلاثة عشر عامًا من العمل المتواصل في مشروع لغويّ رائد أسهم فيه مئات الخبراء من مختلف البلدان العربيّة في بيئة حاسوبيّة متطوّرة، بإدارة ناجعة ورصينة وإشراف من مجلس علميّ يضمّ خيرة علماء العربيّة، وبدعم مثابر من دولة قطر، سوف يُعلن معجم الدوحة التاريخي للغة العربيّة اختتام عمله في نهاية كانون الأول/ ديسمبر من عام 2025. وقد بلغ عدد مداخله 300 ألف مدخل معجميّ؛ بما في ذلك المداخل المستخلصة من النقوش والنصوص، علاوة على جذور النظائر من اللغات الساميّة.
جاءت كلمة "اكتمال" في العنوان لأن المعجم التاريخيّ لا يكتمل فعلًا ونهائيًّا. فنحن نتحدّث عن تاريخ اللغة العربيّة، ومَنِ الذي بوسعه أن يقول بثقة إنّه اختتم الإحاطة بهذا التاريخ!؟ إنّ ما اكتمل هو المشروع الكبير الذي تبنّاه المركز العربيّ للأبحاث، والذي أخذ على عاتقه مهمّة تتبّع تغيّر معاني ألفاظ العربيّة تاريخيًّا، مفردات ومصطلحات، في سياقاتها الاستعماليّة، وذلك باستخدام الشواهد من النصوص، وأصول الألفاظ الأعجميّة التي تعرّبت، مع محاولة تحديد تاريخ أوّل ظهور للّفظ في النصوص المكتوبة، ثمّ تحديد تاريخ المعاني الجديدة التي اكتسبها في سياقاتها وشواهدها؛ وهي عملية عسيرة حين يتعلق الأمر بنصوص ما قبل عصر التدوين. وما زال خبراء المعجم يُصرّون على تحديد التاريخ بالسنة، في حين أنّني رأيت أنّ هذا ممكن في عصور متأخّرة، وما زلت أرى أن تحديد العقد، أو حتى القرن، كافٍ عند الحديث عن تواريخ سحيقة؛ فالمهمّ هو معنى اللفظ في مرحلة ما وتغيّره في مرحلة أخرى.
أجزم أنّنا سوف نكتشف أخطاءً، أو نُبلَّغ عنها؛ فنصّحّحها. وسوف نُضطرّ إلى تعديل تواريخ استعمال بعض الألفاظ إذا تبيّن عدم دقّتها. وقد نُضطرّ إلى تصحيح بعض المداخل بعد أن نكتشف تصحيفًا في المصدر لم ينتبه إليه المحرّر. وسوف نتابع تطوّر اللغة، باشتقاقاتها ومعانيها الجديدة التي تولّدت من تفاعل اللغة الحيّة مع تطوّر الواقع المعيش، وكذلك استقبال ألفاظ أجنبيّة جديدة.
وبما أنه لم يُؤلَّف معجمٌ تاريخيّ للغة العربيّة من قبلُ، فقد كان علينا أن نجتهد بأنفسنا في وضع قواعد البحث والتحرير المعجميّ، وطريقة عرض المداخل وبنيتها واعتماد النتائج لنشرها. ووُثّقت هذه القواعد في دليل معياريّ للتحرير المعجميّ، كما وُثقت المداولات بين أعضاء المجلس العلميّ في محاضر المجلس، وهي تشكل في حدّ ذاتها وثيقةً علميّةً ومصدرًا للباحثين. وها نحن نوشك أن نختتم هذا المشروع الضخم.
لكي يتمكّن الخبراء المعجميّون من البحث عن الألفاظ وتطوّر معانيها في سياقاتها الاستعماليّة، جُمعت خلال عقد كامل مدوّنة اللغة العربيّة بمنهجيّة وشموليّة لم تعرفها لغتنا من قبلُ. وسُخِّرت التقنيّات الحديثة في تصنيف المدوّنة والبحث فيها. فقد استند خبراء التحرير في بناء مداخل ألفاظ اللغة العربيّة ومعانيها إلى البحث في سياقات مدوّنة رئيسة أعدّها خبراء الحوسبة في المعجم تحمل اسم "مدوّنة المعجم المفتوحة"؛ وهي مُعدّة لخدمة المعجم خصوصًا وفقًا لمعاييره في جمع المصادر والوثائق وانتقائها، والتأريخ للنصوص، وربط الألفاظ بسياقاتها. ويبلغ عدد كلماتها نحو 600 مليون كلمة تدعمها مدوّنة حديثة مُلحقَة بالمعايير ذاتها يبلغ عدد كلماتها نحو 400 مليون كلمة. وتُعزّز هذه المدوّنة مدوّنتان أُخريان، هما: "مدوّنة الويب العربيّة" التي يبلغ حجمها في نسختها الحديثة 6.5 مليارات كلمة، ومدوّنة الويب العربيّة المختومة زمنيًّا، التي يبلغ حجمها في نسختها الحديثة نحو 5 مليارات كلمة. وتُشكلان معًا فضاءً واسعًا للبحث عن ألفاظ اللغة العربيّة ومعانيها المستعملَة في النصوص.
لقد اختار معجم الدوحة التاريخيّ الطريق الصعب، وهو البحث في مصادر الألفاظ الأصليّة بدلًا من الاستناد إلى المعاجم؛ فهي ليست مصادر استعماليّة حيّة. وهذا ما دعا الخبراء إلى بناء هذه المدوّنة الضخمة التي تشمل جميع المجالات المعرفيّة، وتفيد في استخداماتٍ لا حصر لها؛ بحثيّة وغير بحثيّة، فضلًا عن استخدامها في صناعة المعجم. وقد صُمِّمت منصّة حاسوبية تربط الخبراء بالمدوّنة، وأُديرت من خلالها عمليّة التحرير والمراجعة والتدقيق والاعتماد، وصولًا إلى النشر على البوّابة الإلكترونيّة، التي فُتحت لعموم القرّاء منذ نهاية المرحلة الأولى؛ أي بعد أن وصلت معالجة معاني الألفاظ إلى عام 200هـ، وذلك في حفل إطلاق المعجم في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2018.
لقد استقرّ قرارنا على النشر على شبكة الإنترنت وعدم طباعة المعجم الضخم ورقيًّا في المرحلة الراهنة، ليس من أجل إتاحة فائدة لأكبر عدد من القرّاء فحسب، ولا سيّما الباحثين، بل أيضًا لإتاحة فرصة أطول للتدقيق والتجويد، وسماع ملاحظات الباحثين والقرّاء؛ فهذه مسؤولية عظيمة، وهذا مشروع أمّة.
أعلنّا مع نهاية عام 2022 عن إتمام المرحلة الثانية من المعجم الممتدّة تاريخيًّا حتى نهاية القرن الخامس الهجريّ، الموافق لبداية القرن الحادي عشر الميلاديّ. ونشرنا موادّه المحرّرة على مدى عشرة قرون في بوّابة المعجم الإلكترونيّة التي ناهزت نحو 200 ألف مدخل معجميّ. وشرعنا في استكمال تحرير الموادّ حتى نهاية عام 2023، بعد إتمام إعداد ببليوغرافيا المرحلة الثالثة والمدوّنة النصّية وتحديث بيئة العمل الحاسوبيّة. وكان علينا تجاوز عدد من التحدّيات الموضوعيّة التي يمكن إجمالها في الآتي:
أوّلًا: تحدّي ضخامة المتن اللغويّ
من المبادئ الموجّهة لصناعة معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة اعتماده الألفاظ المستعمَلة في النصوص المطبوعة والموثوقة؛ لأن الألفاظ الواردة في المعاجم اللغويّة القديمة والحديثة قد تفتقد أحد الشرطَين الأساسيّين في صناعة المعجم التاريخيّ للغة أو كليهما: شرط استعمالها في شاهد نصّي غير مصنوع، وشرط الأقدمية التاريخيّة للشاهد النصّي. ومن المؤكد أن هذين الشرطين لا يتوافران في المعاجم اللغوية.
ولم يكن ثمّة مناص من اللجوء إلى جمع ما أمكن من المؤلّفات بأنواعها المختلفة في مجالات الآداب والعلوم والمعارف والفنون من بداية القرن السادس الهجريّ الموافق للقرن الحادي عشر الميلاديّ إلى نهاية عام 2023. وحتى لا يكون هذا الجمع عشوائيًّا، وضعنا معايير لانتقاء المصادر على أساس تمثيل مؤلّفات جميع البلاد العربيّة عبر الحقب التاريخيّة وفي مجالات التأليف المختلفة، بينما لجأنا إلى اعتماد منهج العيّنات في انتقاء مؤلّفات القرنَين العشرين والحادي والعشرين لضمان تمثيليّة اللغة المستعمَلة مكانًا وزمانًا ومجالات، وذلك انطلاقًا من ببليوغرافيا تمثيليّة شملت نحو 250 ألف عنوان.
بعد انتقاء المصادر وتوفيرها، يأتي تحدّي رقمنة غير المرقمَن منها، ومعالجة النصوص المعتمَدة، ثمّ صناعة مدوّنة نصّية مُوسّمة ومُهيكَلة ومُؤرّخة. ويُوفّر البحث في هذه المدوّنة الضخمة الحصول على كلّ لفظٍ من ألفاظ اللغة العربيّة في سياقاته النصّية مقرونة بمصادرها وأسماء مؤلّفيها وتواريخ التأليف أو تواريخ الوفاة.
ثانيًا: تحدّي البحث عن الألفاظ والمعاني الجديدة في كتلة نصّية ضخمة
إذا كان البحث عن أقدم استخدام للفظ، وتحديد تواريخ وفيات الشعراء والكتّاب، والتأكّد من أصالة النصّ الذي غالبًا ما يكون منقولًا في عصر آخر، والتحقيق بدقّة في النصوص المحقّقة، من أهمّ تحدّيات المرحلة الأولى، فإنّ من تحدّيات المرحلة الثالثة أن يبلغ عدد سياقات اللفظ الواحد في المدوّنة النصّية عشرات الآلاف أو الملايين، وعلى محرّر المادّة المعجميّة استخلاص الألفاظ والمعاني الجديدة التي لم يرصدها المعجم في مرحلته السابقة المنتهية في عام 500هـ من كل هذه السياقات. وقد كان الأسلوب المتّبع في تلك المرحلة هو استقراء السياقات وقراءتها، إلّا أنّ هذا الأسلوب لم يعد عمليًّا أو مجديًا بالنظر إلى ضخامة عدد سياقات الألفاظ في المدوّنة وما يستلزم تتبّعها وقراءتها من جهد ووقت.
من ذلك مثلًا أنّ الكلمات (أَمْر) و(نَفْس) و(حدَث) يتجاوز عدد سياقات كلّ منها في مدوّنة المعجم المفتوحة وحدها مليون سياق، وأنّ الأفعال (أراد) و(جعل) و(أخذ) يتجاوز عدد سياقات كلّ منها نصف مليون سياق. ويتضاعف هذا العدد باحتساب سياقاتها في المدونات الأخرى.
ومن أجل تجاوز هذا التحدّي، جرى استخدام أدوات البحث المتقدّم مثل كشّاف السياقات والبحث بالمتصاحبات وغيرها من الأدوات المستخدمَة في صناعة المعاجم العالميَّة المعاصرة. واستُعين أيضًا بالترشيح الآلي للألفاظ والمعاني المستخلَصة من عدّة معاجم، المتوقّع أن تكون جديدة الاستعمال في المرحلة، مع تحديثات مهمّة في البيئة الحاسوبيّة لصناعة المعجم شملت إضافة عددٍ من الخدمات التي تُيسّر التحرير المعجميّ. ولن تكتمل هذه العمليّة الشاقّة والمعقّدة من دون ملاحظات القرّاء وتنبيه النبهاء منهم لما يكون قد فات المحرّرين.
ثالثًا: تحدّي المصطلحات
يعتني معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة بالمصطلحات مثل عنايته بالألفاظ؛ لأنّها، على العموم، تمثّل تحوّلًا دلاليًّا مهمًّا ينبغي عدم تفويت تسجيله. أما المصطلحات غير الألفاظ اللغويّة العامّة، فالأوْلى باستخلاصها وتعريفها مفهوميًّا في مجالاتها العلميّة هم المتخصّصون في مجالاتها، مثل الرياضيّات والفيزياء والفلسفة والمنطق واللسانيّات وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وغيرها. ولتجاوز تحدّي المصطلحات في المعجم، كُلِّف متخصّصون في كلّ مجال من المجالات العلميّة بتحرير المصطلحات في مجالات تخصّصاتهم، مع تكليف خبراء التحرير اللغويّ بالنظر في المداخل المصطلحيّة للتأكّد من توافقها مع ضوابط المعجم قبل إدماجها في موادّها المعجميّة.
رابعًا: تحدّي الألفاظ الأعجميّة
كُلِّف متخصّصون بتأثيل الألفاظ الأعجميّة الواردة من اللغات الأجنبيّة التي تفاعلت معها اللغة العربيّة؛ مثل اليونانيّة واللاتينيّة والفارسيّة والهنديّة والصينيّة والمصريّة والقبطيّة والتركيّة والأمازيغيّة والألمانيّة والروسيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة وغيرها من اللغات، وذلك بتحديد الأصل الذي تنتمي إليه الكلمة قبل دخولها في الاستعمال العربيّ، مع تكليف خبراء التحرير المعجميّ ببناء مداخل الألفاظ الأعجميّة وفقًا لمعلومات تأثيلها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الألفاظ الأعجميّة قد تجذَّرت في اللغة العربيّة حرفيًّا؛ أي أصبح لها جذر واشتقاقات. وهذا دليل على حيويّة هذه اللغة واستعدادها للتكيّف مع الجديد في كلّ عصر، فالمشكلة ليست فيها، بل في أمور أخرى أشغلتنا وتشغلنا، ولا يحتمل هذا النصّ القصير ذكرها أو الاستفاضة فيها.
خامسًا: تحدّي ضمان الجودة
ظلّ حرصنا قائمًا على التأكّد من صحّة المعلومات التي يقدّمها المعجم عن كلّ لفظ من ألفاظه: عن صحّة اللفظ في حدّ ذاته، ووسمه الصّرفيّ، وتعريفه، وشاهده، وتاريخه، واسم مستعمله، وغير ذلك، مع توثيق مصادر هذه المعلومات.
ومن الوسائل التي لجأنا إليها من أجل بلوغ هذه الغاية متابعة الإنجاز الكيفيّ باستمرار، والتدريب المُواكب لخبراء التحرير اللغويّ والمصطلحيّ وخبراء التأثيل، وخضوع جميع الموادّ المحرّرة للمراجعة والاعتماد. وعلاوة على ذلك، انفتح المعجم على جمهوره لتلقّي أي ملحوظات من شأنها تجويد موادّه، وخصّص لهذا الشأن خانةً في بوّابة المعجم.
سادسًا: تحدّي الوفاء بالإطار الزمنيّ المتاح
لا نهاية لتطوّر اللغة، ولكن لكلّ مشروع بداية ونهاية. والإحاطة بألفاظ اللغة ومعانيها أمر لا يمكن أحدٌ القطع به أو ادّعاء بلوغه. واللغة متجدّدة باستمرار، على نحو يوميّ تصعب الإحاطة بها. ولذلك لم يكن ثمة مناص من تحديد موعد زمنيّ لإتمام المرحلة الثالثة الأخيرة من المعجم، واتخاذ كلّ الإجراءات الضروريّة لتقديم موادّ المعجم مُحرّرة ومعتمدَة في موعدها المحدّد نهاية العام الجاري، مع فتح مجال واسع للتحديثات المستمرّة على نحو ما تعرفه المعاجم العالميّة.
خاتمة
يقتضي بناء معجم تاريخيّ للغة العربيّة لزامًا التعامل مع هذه التحدّيات الموضوعيّة. ولو اكتفى مشروعنا باتخاذ المعاجم اللغويّة العربيّة القديمة والحديثة قاعدة لمعطياته ومداخله، لأتمّ ذلك منذ سنوات. لكنّه لن يكون معجمًا تاريخيًّا للغة عربيّة حيّة كامنة في النصوص المستعملة في التأليف في مختلف مجالاته الأدبيّة والدينيّة والثقافيّة والعلميّة والتقنيّة والفنيّة. ومع ذلك، أنجزنا المعجم في فترة قصيرة نسبيًّا مقارَنة بالمعاجم التاريخيّة التي سبقتنا؛ مثل معاجم الألمانية والفرنسية والإنكليزية وغيرها، التي احتاجت المؤسّسات التي تولّتها إلى ما بين خمسين ومئة عام لإنجازها. ويعود قِصر المدّة في حالة معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة إلى نجاعة أساليب العمل والإدارة، وعدد الخبراء والباحثين الكبير نسبيًّا، والتقنيّات الحديثة التي استُخدمت في جمع المدوّنة اللغويّة ومعالجتها، وكلّ هذا لم يكن ممكنًا من دون الدعم المثابر الذي قدّمته دولة قطر، وما زالت تقدمه، لهذا المعجم؛ الذي أدى إلى ما يسمى معجم الدوحة باستحقاق.
فبفضل المرونة المنهجيّة، أمكن إعداد ببليوغرافيا ممثّلة للغة العربيّة في العصور المختلفة، وفي مختلف أنحاء البلاد العربيّة والإسلاميّة، وفي المجالات العلمية المتنوّعة.
وبفضل التقنيّات الحاسوبيّة المتطوّرة، أمكن التغلّب على تحدّي ضخامة المتن اللغويّ واستخلاص الألفاظ والمعاني في أطوارها المتلاحقة عبر سنوات الاستعمال.
وبفضل اعتماد مبدأ التخصّص، أشركنا الأساتذة الباحثين المتخصصين في مجالات العلوم لمعالجة المصطلحات في المعجم، وأشركنا الأساتذة الباحثين المتخصّصين في اللغات الأجنبيّة لتأثيل الألفاظ الأعجميّة.
وأخذًا بمعايير الجودة في العمل، عدّدنا المستويات؛ فلا تُنشر مادّة من موادّ المعجم حتى تخضع للمراجعة والاعتماد، ضمانًا لصحّة المعلومات المقدّمة إلى جمهور المعجم.
ولن ينتهي عام 2025 قبل أن نقدّم لأمّتنا معجمًا تاريخيًّا للغة العربيّة يرصد ألفاظها العربيّة والأعجميّة ومصطلحاتها المستخلصة من النقوش والنصوص، مع ما عرفته من التحوّلات البنيويّة والدلاليّة على مدى ما يقارب عشرين قرنًا من الزمان مشفوعة بنظائرها الساميّة.
فضلًا عن إنجاز معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة، الذي لا غنى عنه لفهم الماضي، والذي يسهم في التطور الثقافي حاضرًا ومستقبلًا بوصفه يفتح اللغة على مصراعيها، ويكشف الطاقة الكامنة فيها، فإنّ المدوّنة النصّيّة تُعدّ في حدّ ذاتها إنجازًا غير مسبوق يتيح للباحثين الوقوف بأنفسهم على سياقات استعمال الألفاظ ومصادرها وتواريخها.
تمرّ أمّتنا بظروف عصيبة غير مسبوقة في صعوبتها، ليس بسبب الأضرار الماديّة على مستوى الأفراد والمجتمعات والشعوب وسيادة الدول فحسب، بل أيضًا للضرر الكبير على المستويين المعنويّ القيميّ الأخلاقيّ، والحضاريّ؛ فالدول تتفرج على عملية إبادة جارية، وتشهد عملية تقويض سافرة لسيادة دول عربية أخرى وتحويل المنطقة العربية إلى إقليم نفوذ للدخلاء عليها. والأمة مشلولة الإرادة. ويكاد المرء يُصاب بالحرج حين يَهُمّ بأن يخط بلاغًا متضمنًا بشرى من هذا النوع، لولا أن هذه الأمّة تستحقّ أن تذكَّر بأنها حيّة على الرغم من كلّ شيء، وأن من قاموا بمثل هذا العمل ليسوا استثناءً؛ ففي كل بلد عربي ثمة رجال ونساء يؤدون عملهم بإتقان وبدافع المسؤولية والضمير.