نشر فى: 07/04/2020 - المؤلف: عزمي بشارة

كان أحد الأسئلة الكثيرة التي حاولت الإجابة عنها في المقدمة والفصل الأول من الجزء الثاني من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي قد تعلق بأصل التعبير عن التمايز بين مجالي الديني والدنيوي، المقدس والعادي بمصطلحات مشتقة من ألفاظ لاتينية مثل laosوsaeculum. وقد كان واضحًا بالنسبة لي أن أصل التمييز لم يكن في الفلسفة أو في العلم بل هو أصل ديني ثيولوجي تثوي بواكيره في العصر الوسيط المبكر، وتتمثل جذوره في تمييز المجال الديني لذاته من غيره من مجالات "دنيوية"؛ إذ ميّزت الكنيسة بين رجال الدين ورعيتهم، واستخدمت لتعيين الرعية مصطلح laos باللاتينية أو laity بالإنكليزية (وربما يقابلها أيضًا لفظ العامة بالعربية)، مثلما ميّزت حتى بين الرهبان المكرسين للعبادة والكهنة العاملين في أوساط الرعية، secular clergy في مقابل regular clergy. أما مصطلحُ "علماني" و"علمانيون" باللغة العربية، فقد استخدمتها أيضًا الكنائس المشرقية في التمييز بين رجال الدين والرعية (وغالبًا ما تستخدم الكنائس لفظ الشعب أيضًا). بيد أن لفظ "علمانية" المجرد بوصفه مصطلحًا (للدلالة على تيار فكري أيديولوجي بشأن علاقة الدين بالدولة وغيرها من المسائل) فلم تستخدمه الكنائس الغربية ولا الشرقية، بل استُخدم من طرف منظّري هذا التيار نفسه في القرن التاسع عشر، وسبق أن تطرقت إلى الموضوع بتوسّع[1].
وفي خضم مناقشة أصول اللفظ اللاتيني والعربي لم ـأحقق في أقدم استخدامات اللفظ العربي. وسوف نرى أنه حين استخدمت الكنائس الشرقية لفظ "علمانية" منذ القدم، فإنه حمل الدلالة نفسها في الاسم كما في صفة "علماني" و"علمانيون" للدلالة على من ليسوا رجال دين.

ومن مزايا معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهو مشروع ضخم يقوم به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وتسهم في تأليفه مجموعة متميزة من علماء اللغة العربية والباحثين، أنه يؤرخ للفظ ودلالاته المتغيرة منذ أول استخدام مكتوب له، معتمدًا على الشواهد والسياقات اللغوية. وقد لفت أحد الزملاء من باحثي المركز والمعجم نظري إلى استخدام للمصطلح في كتاب تاريخ الأنطاكي "المعرُوف بصِلَة تاريخ أوتيخَا" وجده ضمن عمله في المعجم[2]، وذلك قبل نشر هذا السياق والتأريخ للمصطلح ضمن مصطلحات المعجم، حيث سيجد مكانه في بداية القرن الخامس الهجري، وسيكون في إمكان القارئ أن يطلع عليه في موقع المعجم. والكتاب من تأليف يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي (ت. 458ه/ 1067م). ويعتبر مصدرًا أساسيًا للمؤرخين في التعرف إلى تاريخ القرنين الرابع والخامس الهجريين/ العاشر والحادي عشر الميلاديين، ولا سيما تاريخ الدولة الفاطمية في مصر والشام والدولة الحمدانية بحلب. وقد عاش الأنطاكي بشكل مباشر فترات مهمة من هذا التاريخ، ولا سيما فترة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (حكم 386-411هـ/ 996-1020م)، إذ كان في تلك الفترة بطريركًا على الإسكندرية. ولا يمكننا الجزم بأنه أول من استخدمه، إذ يؤرّخ المعجم لأول استخدام مكتوب وصل إلينا. لكن يمكن أن نستنتج أن لفظ "علماني" كان مستخدمًا في مجاله التداولي الكنسي حين استخدمه في كتابه. وسوف يتبين لنا أن لفظ "علمانية" استخدم أيضًا في نص مكتوب قبل هذا النص. في كل الأحوال، إن كتابه هو من أقدم النصوص المكتوبة التي تشتمل على هذا الاستخدام شبه المصطلحي/ المفهومي في التمييز بين رجال الدين وعامة المؤمنين.لقراءة نص الورقة كاملا


التعليقات

لتشارك بتعليق أو رد، تحتاج إلى تسجيل الدخول أو التسجيل
مشاهدة التعليقات السابقة