نشر فى: 06/09/2025 - المؤلف: محمد زيدان

​​​​​​​​​​التفكر في علاقتنا بالمعجم في حياتنا العربية المعاصرة يثير الحسرة.

ثمة حسرة أيضًا تخللت سطور المقال الذي كتبه الدكتور عزمي بشارة عن "اكتمال" معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ثمّ ظهرت صريحة في الفقرة الأخيرة: "تمرّ أمتنا بظروف عصيبة غير مسبوقة في صعوبتها.. للضرر الكبير على المستويين المعنوي القيمي الأخلاقي، والحضاري؛ فالدول تتفرج على عملية إبادة جارية..". تداول تلك الفقرة الخاتمة كثيرون، في تفاعل جمعيّ دالّ على اتفاق حول هذا الضرر العميق الضارب فينا، وخراب الحال المديد الذي نعيشه.

كانت اللهجة أكثر تفاؤلًا قبل سبع سنوات، في المقال الذي كتبه بشارة بمناسبة إطلاق بوابة المعجم حينذاك، في ديسمبر ٢٠١٨، حين اعتبر، محقًا، أنّ إطلاق صفة "تاريخي" على تلك اللحظة "مساهمة في إعادة الاعتبار لهذا الوصف"، من بعد طوال ابتذاله في الخطاب العربي العام المليء بمحاولات خلط "أوهام الأهمية" بالأهمية، بحسب تعبيره في مقاله المنشور أيضًا على موقع صحيفة العربي الجديد. قال بشارة: "أقول هذا بسعادة واعتزاز يقدرهما من يعرف التواضع إزاء حجم المسؤولية وثقلها".

لكن احتجبت تلك السعادة في مقال "الاكتمال". ذلك الأمل بالنهوض والتنوير، والتهلل للتغيير الممكن والتطوّر، خفت كثيرًا وتوارى، كما توارى الحديث عن "شخصية الأمة"، و"تاريخها"، و"الانطلاق نحو المستقبل"، واللغة التي "تنبض بحياة الناس وواقعهم المتغيّر"، و"الإيمان بإمكانية تحويل الأحلام النبيلة إلى أهداف واقعية، ثم برامج عمل".

أما ما ظل حاضرًا في المقال الجديد فهو تلك القناعة المبدئية بأن الرديء والمبتذل ليسا خيارًا على أية حال، ولا التحايل وتجاهل المسافات بين الواقع الصعب والمستقبل المأمول. فـ"الأمة حيّة على الرغم من كلّ شيء"، وثمة بيننا رجال ونساء ما يزالون يحرصون على أداء أعمالهم "بإتقان وبدافع المسؤولية والضمير"، يصرّ بشارة.

هكذا جاء الإعلان عن "اكتمال" المعجم، وكأنّه إعلان عن حدّ فاصلٍ بين الحسرة والأسف على ما آلت إليه الأمور، وبين الاستسلام لليأس أو التسليم بأن القدرة على استشراف أي بدايات لمستقبل أفضل وأكثر عدلًا وكرامة، تكاد تنعدم.

لكن بعض ما يعنيني في الإعلان عن هذا المنجز الضخم في تعمير معجم تاريخي للعربية، مرتبط بتلك الأسئلة التي ينبغي طرحها من أجل التعرّف حقًا على منزلة المعجم في الحاضر العربي المعاصر، ليس بين المختصين والمعنيين ممن سمعوا عن المشروع واشتغلوا به أو عكفوا على تصيّد ما فيه من أخطاء وأوجه القصور، بل على المستوى العام: الطلبة، المدرسون، الصحفيون، القارئ العادي، أبي المتقاعد، وصديقي الأجنبي المهتم بالدرس اللغوي العربي، وأبنائي في المستقبل. ما النقطة التي يتحوّل فيها المعجم التاريخي فعلًا إلى رافعٍ حضاري وثقافي في مجتمعاتنا؟

لعل الفكرة التي أودّ إثارتها هنا تتضح بالمقارنة مع واحدة من الظواهر التي تثير الغبطة في قاموس أكسفورد التاريخي:

فعندما تأسس مجمع اللغة العربية في القاهرة عام ١٩٣٢، والذي تكلف بموجب المادة الثانية من مرسوم إنشائه "بوضع معجم تاريخي للغة العربية"، كان العمل جاريًا في بريطانيا على إصدار الطبعة الجديدة من "قاموس اللغة الإنجليزية الجديد القائم على المبادئ التاريخية والمعتمد أساسًا على المواد التي جمعها المجمع اللغوي البريطاني". في العام ١٩٣٣، سقطت هذه التسمية الطويلة العجيبة، وصار القاموس الإنجليزي رسميًا هو "قاموس أكسفورد"، وهو المعجم التاريخي الكبير للإنجليزية، المطبوع حينها في ١٢ مجلدًا، مع ملحق واحد.

تتابعت الملاحق بعدها ونما المعجم، ثم خرج في طبعته الثانية الشهيرة عام ١٩٨٩، في ٢٠ مجلدًا بالطبعة الكبيرة الكاملة؛ زهاء ٢٢ ألف صفحة. قبل ذلك بعام، أي في العام ١٩٨٨، توفرت النسخة الإلكترونية من قاموس أكسفورد، وبعد ١١ عامًا، في مطلع الألفية الجديدة، بات القاموس متاحًا على شبكة الإنترنت.

حوالي ٦٠٠ ألف مدخل معجمي، بملايين الاقتباسات؛ أكثر من ٣.٥ مليون اقتباس.

هذا العمل المثابر استغرق عقودًا بطولها. الطبعة الأولى صدرت بعد ٧٠ عامًا من بدء تنفيذ الفكرة وجمع المواد، في منتصف القرن التاسع عشر. أما الطبعة المذهلة الثانية (التي سأقتنيها يومًا)، فقد نشرت بعد ١٣٢ عامًا من العمل المضني والدؤوب الذي بذلته أجيال من كبار الباحثين واللغويين.

احتاج معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ١٣ عامًا (فقط) لإطلاق نسخة تضم ٣٠٠ ألف مدخل معجمي، بالاعتماد على مدوّنات معجمية محوسبة ضخمة، وهو متوفر مجانًا للجميع.

في متن مقال بشارة، ثمة ملاحظة أساسية لافتة: "أجزم أننا سوف نكتشف أخطاء، أو نبلغ عنها، فنصححها".. ثم يقول في فترة لاحقة في سياق الحديث عن التحديات: "لن تكتمل هذه العملية الشاقة والمعقدة من دون ملاحظات القراء وتنبيه النبهاء منهم لما يكون قد فات المحررين".

وثمة أخطاء فعلًا. أنا مستخدم يوميّ عادي (غير مختص) لمعجم الدوحة، ولمعجم الشارقة، وتشغلني بعض المشكلات فيهما، في الواجهة وتجربة المستخدم، وفي المواد التي أطالعها وأبحث عنها، وفي بعض التعريفات الغريبة، والتصاريف أو حتى الحركات غير المنضبطة، أو في عدم الإحاطة بمدخلات معينة أو بالنطاق الأوسع لمعانيها المختلفة. وهي أمور أستفهم بشأن العويص منها بعض الزملاء والأساتذة، وأحاول الإبلاغ عنها أحيانًا حين يسعني ذلك، بعد التأكّد من أن شكي أو شكواي في مكانهما. لكن، أتخيل أحيانًا وأسأل: ماذا لو كان الاهتمام بالمعجم أكبر وأعمّ وأنشط، ماذا لو تفحصه الصحفيون، وساءلوا مادّته، أو جرب استخدامه الأساتذة والمعلمون في الجامعات والمدارس. ماذا لو تواصل المعجم مع المستخدمين، وانعقدت الندوات والجلسات العامة في المكتبات والمجامع اللغوية لمناقشة تطبيقاته في المجالات المختلفة، ماذا لو امتلك الناس وصولًا أكبر وتواصلًا أكثر حيوية مع المحررين والباحثين فيه؟

في قاموس أكسفورد، ثمة سنّة لغوية اجتماعية قديمة قدم القاموس نفسه، اعتمدت مناشدة المجتمع نفسه على الانخراط في صناعة المعجم، عبر القراءة تحديدًا فيما توفر من الكتب والمراجع، والمساعدة في وضع اليد على كلمات أو معانٍ للكلمات غير مسجّلة في المعجم، وتوثيق الشاهد حسب الأصول وإرساله بالبريد إلى العاملين فيه. حصل ذلك في بدايات العمل على فكرة القاموس منتصف القرن التاسع عشر، وهي الإستراتيجية التي جعلت القائمين الأوائل على المشروع يدركون أنّه لا يمكن لملحق أو مجموعة من الملاحق الإحاطة بكل تلك الفوائت من المدخلات والمعاني غير المدوّنة، بل هو ما أعطى الشرعيّة للعمل على "القاموس الجديد للغة الإنجليزية"، إلى آخر تتمّة الاسم الذي ذكرناه أعلاه.

في العام ١٨٥٩، ارتحل نبأ هذا القاموس الجديد عبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة. هناك، انطلقت مناشدة جديدة. لم يتحمس الأمريكيون كثيرًا لأسباب عديدة، لكن بدأ منذ ذلك الحين تتشكّل حالة من "الاجتماع" حول القاموس واللغة والكلمات. ثم انتعشت هذه الحالة أكثر في نهاية سبعينات ذلك القرن، لما تمّ الاتفاق مع مطبعة جامعة أكسفورد، واختيار جيمس موري محررًا مسؤولًا عنه. بادر موري إلى توجيه مناشدة إلى عامّة الناطقين بالإنجليزية والقارئين لها، من أجل "قراءة الكتب وجمع الشواهد" لصالح "القاموس الجديد للغة الإنجليزية".

كان موري وزملاؤه بحاجة مساعدة حقيقية بالأخص فيما يعنى مطبوعات القرن الثامن عشر، في بريطانيا العظمى وأمريكا والمستعمرات. ولأن الأساتذة الأمريكيين لم يتعاونوا بالقدر المأمول مع المجمع البريطاني، فإنه لم يجد بدًا من اللجوء إلى عامة القراء، للمساهمة في سدّ العجز الحاصل في استكشاف المادة اللغوية في كتب ذلك القرن وأعماله الأدبية- وهو جهد بشري بحت- وهي مراجع ضمّنها موري في المناشدة، مع قائمة طويلة من أعمال وكتب أخرى ابتداء من القرن الخامس عشر.

لم تنقطع تلك الالتماسات اللغوية للعامة والتواصل مع الجمهور، بل تطوّرت الممارسة وآلياتها المتبعة وصارت أكثر دقّة وتحديدًا، فانتقلت من طور يُطلب من الناس فيه القراءة في مجموعات محددة من الكتب والمراجع، إلى طور يطلب شواهد على مجموعات من المدخلات المعجميّة غير المشهّدة، مثلما حصل مرّة في العام ١٨٧٩، حين طلب موري العون بشأن قوائم من "المطلوبات اللغوية" (حوالي ستين كلمة)، ورجا من عموم القراء البحث عن شواهد عليها.

ولم ينقطع هذا الاتكاء على مجتمع القرّاء حتى بعد صدور القاموس الكبير أول مرة عام ١٩٢٨ (بعد ١٣ عامًا من وفاة جيمس موري)، وذلك حين لجأت إدارة تحريره إلى فكرة "الملحق" لتدوين التغيرات التي لحقت مادّة اللغة أو إضافة ما فات من كلمات أو معانٍ أهملت في المجلدات التي سبق العمل عليها وتحضيرها. هذه المواد والشواهد الدالّة عليها مما سينضاف في الملحق، هي في جزئها الأعظم من إسهامات "عديد القراء، الذين يدين لهم بالفضل محرر هذا القاموس، وكل مستخدم له".

وظلت تلك الالتماسات للعامة تتوالد بلا انقطاع، حتى باتت سمة تميّز قاموس أكسفورد، بل وظلت الظاهرة تتطور ويتسع مداها، مع تطوّر اللغة المرافق للتطورات الهائلة في المجتمع والتحولات التي فيه على الصعيد التقني تحديدًا، لكن أيضًا في السياسة والفن والأدب والسينما وغيرها. ففي الخمسينات مثلًا، بدأت تلك الالتماسات توجّه لجماعات من المتخصصين في فنون ومجالات معيّنة، كذلك الالتماس الذي نشر في مجلة "الجمعية الملكية لعلوم الطيران"، وغيرها، وهو ما استمرّ حتى صدور الطبعة الثانية المحدثة من القاموس، في مارس عام ١٩٨٩، والتي توسعت وضمّن فيها الملاحق الأربعة التي جمعت بفضل مساهمات القرّاء وعمل المحرّرين على مدى ستة عقود من صدور النسخة الأولى عام ١٩٢٨.

في تلك السنوات من القرن العشرين، كان للصحافة دور مهم في نقل تلك المخاطبات بين محرري القاموس والعامّة، فنشرت الإعلانات عن "المفقودات اللغوية" في صحيفة التايمز اللندنية، وهو ما ساعد على تحصيل شواهد أقدم على العديد من الكلمات والمفردات ومدلولاتها المتجددة والنص على كل هو بسبيلها من الشواهد الحيّة، ثم باتت الصحف نفسها من أهمّ مصادر القاموس وأكثرها ثراء، لاسيما في نسخته الرقمية الحالية.

حافظ سدنة القاموس من بعد ذلك على تلك السنّة (أرجو أن لا أبدو متكلّفًا في هذه الكلمة، لكني أستخدمها بمعناها الأقدم المسجّل في معجم الدوحة، أي "السيرة")، وظلت المناشدات تصل العامّة، لكن هذه المرّة عبر "نشرة بريدية" خاصّة. وفي العام ١٩٩٩، نشر المحرر الجديد جون سيمبسون نشرة من نحو ما نشره سلفه جيمس موري قبله بـ ١٢٠ عامًا، لكنّه أسماها "لغتكم بحاجة إليكم"، رغمَ أن تلكم قد كانت نشرة خاطبت قراء الإنجليزية في العالم كلّه!

وفي العام ٢٠٠٥، تعاون المعجم مع هيئة الإذاعة البريطانية، في عملية البحث عن شواهد مبكرة لخمسين كلمة وعبارة، ثم عرضت النتائج في سلسلة متلفزة في العام التالي، أثارت اهتمامًا وفضولًا واسعين. صار المعجم ظاهرة عامّة يعرف عنها الجميع ويسمعون، وتوسّع النظر في الشواهد وملاحقتها والتنافس في التنقيب عنها، حتى شمل ذلك الإعلانات الدعائية والمذكرات واليوميات الشخصيّة وسجلّات الزيارات (للمتاحف وغيرها)، بل حتى دفاتر الملاحظات في أقسام الشرطة والسجون أو سجلات الحرفيين وقصاصاتهم.

بقي المعجم متمسّكًا بهذا التقليد ومستفيدًا منه، وتعامل معه المحررون الذين توالوا على إدارة قاموس أكسفورد وكأنه لازمة محتومةٌ، حتى مع التطورات الحاسوبية التي دخلت الصنعة المعجمية. ففي العام ٢٠١٤، نُشر التماس بمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، كان عنوانه هذه المرّة: "قاموس أكسفورد بحاجة إليكم!". الغاية من الالتماس هو التنقيب عن أي استشهادات أبكر في تاريخ الاستخدام لقائمة من الكلمات والعبارات التي اتصلت بالحرب الكبرى، أو تولّدت خلالها. نفهم أيضًا من ذلك الالتماس أنّ المدونة الحاسوبية المتوفرة ليست هي بالضرورة الجواب الحاسم لتحديد التاريخ الأدق لاستخدامات كلمة ما؛ فربما ظهرت الكلمة فعلًا في مادة صحفية مؤرّخة، لكنها قد تكون ظهرت قبل ذلك في موضع آخر، في مسودّة بحث غير منشور ظل بين الأوراق في منزل ما، أو في مذكرات أحد الجنود، وهي مواضع يستحيل على المدونة الحاسوبية الإحاطة بها جميعها، ولذا لا بدّ أن نسأل الناس، وندق على أبوابهم لو لزم. أمّا الغرض الآخر وراء ذلك الإصرار الدؤوب على صياغة تلك الالتماسات، فهو التأكيد على أنّ للقاموس أهلًا وأصحابًا، هم عامة الناس والمستخدمين. (ثمة في الواقع كتاب عنوانه: "أهل القاموس" يوثق حكايات مرتّبة ترتيبًا أبجديًا عن متطوعين قدموا إسهامات جليلة لمعجم أكسفورد وتفاعلوا بجدية بالغة مع تلك المناشدات التي نشط موري في نشرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر).

أودّ الاستطراد قليلًا هنا لتوضيح أمر ذي صلة بهذه المسألة.

بلغ الاهتمام العام بقاموس أكسفورد التاريخي في الصحافة مبلغًا عجيبًا، لا أحسب أن قاموسًا آخر أصابه. (هذا ادعاء يحتاج بعض التحقق والبحث، لكن صحيح على الأقل في حالتنا العربية). من ذلك مثلًا، أنّ الصحف الإنجليزية تزهو فيما بينها وتتنافس بعدد الشواهد التي لها في القاموس.

في العام ٢٠١٠، ستنشر التايمز هذا العنوان:

"التايمز أكبر مصدر لقاموس أكسفورد"

وجاء في مطلع المادة: "لو كنت تشكّ في الأمر فيما مضى، فإن المعجميين قد أكدّوه الآن: ليس للإنجليزية مصدر أكثر غنىً من الصحيفة التي تقرأها الآن".

​أما الديلي تليغراف، وفي نفس مناسبة إطلاق النسخة الرقمية من القاموس، فنشرت مادة زاهية هي الأخرى، لكن عن إنجاز أقل تواضعًا. في النسخة المطبوعة، كما نقلت الغارديان، جاء هذا العنوان: "الكلمات التي معجمتها التليغراف". أي تلك الكلمات التي وجدت لها طريقًا من أعمدة الجريدة إلى أعمدة قاموس أكسفورد، فخلّدت هناك. كلمة مثل "eco-friendly" مثلًا، ظهرت أول مرّة في الصحيفة، عام ١٩٨٩، فأخذها القاموس ودوّنها مع الشاهد، وكذا كلمة شهيرة مثل "underdog"، يعود أول استخدام مدوّن لها في التليغراف، وذلك عام ١٨٨٧.

تظل التايمز اللندنية، حتى اليوم، في رأس قائمة أول ألفِ مصدرٍ ومرجع لقاموس أكسفورد بحسب عدد الشواهد، وذلك بواقع ٤٣،٣٤٨ شاهدًا مستفادًا منها حتى أغسطس، ٢٠٢٠. حصل هذا رغم معارضة السدنة الأوائل للقاموس للاعتماد على الصحف وعلى كلام كتّابها "الذي يشترى ببنسات بخسة" بحسب تعليق مندوبي من جامعة أكسفورد في مداولاتهم بشأن المشروع عام ١٨٧٧، ونقله عنهم جيمس موري في أوراقه، وعبر عن موقف رافض عنه: "تلك من أسخف الانتقادات التي أثيرت على المعجم حتى الآن"، قال موري، الذي أكّد بعد ذلك على أهمية الصحافة كشاهد على حياة اللغة وحيويّتها: "للغوي ومؤرخ اللغة، لا يفوق قيمة الشواهد الصحفية أي مصدر آخر، ذلك أنها الدليل على كيف تنمو اللغة"، ولم يلق كثير اهتمام بتلك الدعاوى التي ترى في الصحافة "كارثة على اللغة".

تعززت مقبولية هذا الموقف المعجمي المتصالح مع الصحافة بعد موري، لكنّه بلغ مدياته القصوى في أعمال الطبعة الثالثة من القاموس (التي لم تطبع، وربما لن)، أي في منتصف تسعينات القرن العشرين، ثم مع أكسفورد في حقبته الرقمية المفتوحة (باشتراك سنوي يبلغ ١٠٠ دولار) مع مطلع الألفينات، وبما يعكس ما استقرّ عليه العرف المعجمي في أنّ مهمة القاموس التاريخي للغة أن يسرد الوجهة التاريخية لكل كلمة ويعرض تطوّرها الخاص وفق ما استخدمها أهلها في مختلف العصور.

مثل ذلك النشاط اللغوي المشتبك مع المجتمع جعل من معجم أكسفورد قاموسًا حيًا يعرفه الناس ويعرفون قصصه ويتداولون حكاياته وأساطيره، وجعل منه مشروعًا ألهم العديد من الأعمال الأدبية الناجحة والأفلام الروائية. والأهم من ذلك، أو ما اهتممت أنا شخصيًا بملاحظته، هو تلك الحالة من الانشغال الصحفيّ بالمعجم وروّاده؛ وليس هذا مقتصرًا على قاموس أكسفورد وحده، بل يمتد إلى معاجم أخرى، مثل معجم "ويبسترز" بطبعته الثانية الكاملة ثم بطبعته الثالثة التي أثارت وما تزال الكثير من الجدل والحكايات، وهو وضع يعبر عن كيف يتحول عمل أكاديمي وتقني معقّد إلى ظاهرة شعبيّة، يحوم حولها كل هذا الاهتمام والحماسة.

لا يمكن بحال أن نخفي الفرح والاستبشار بمعجم تاريخي للغتنا، مثل معجم الدوحة، غير أن هذه الملاحظات السردية أعلاه ترسم صورة عامّة لأمثلة حقيقية- أجدها مذهلة- عن شكل تلقي العمل المعجمي والتعاطي معه في المجتمع وفي الصحافة- باللغة الإنجليزية- وهي أمثلة نحتاج إلى جهدٍ حقيقي من أجل بلوغها؛ من أجل كسر الحاجز التواصلي الذي يبدو مسدودًا في وجه مشروع معجمي تاريخي كبير كهذا المعجم، وخلق مناخٍ من الحكي العام عنه والمطالبة الصادقة بتطويعه وتطويره واستكشاف تلك الطاقة الكامنة فيه وفي لغتنا، وليكون يومًا ما، هو "قاموسنا" العربي بحقّ.